المعاصي سبب كل بلاء
ومعلوم أن الله جل وعلا إنما خلق الإنسان لطاعته وعبادته، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ولأجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. ولقد بين الله جل وعلا لعباده طريق الهداية أي بيان، وزجرهم عن طريق الغواية والعصيان، وجعل المعاصي سببًا للهلاك والهوان، وموجبًا للعذاب والنيران، فقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ النور: 63
وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه آل عمران: 30، وقال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيد البروج: 12، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ هود: 102.
وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه آل عمران: 30، وقال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيد البروج: 12، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ هود: 102.
فعلم من ذلك أن طاعة الله واتباع أمره وقاية من النكال والعذاب، وسبيل إلى الأمن والأمان كما قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وأن مخالفة أمره بالمعاصي والسيئات، هي سبب البلاء والعقوبات، والأحزان والحسرات، كما قال تعالى:وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.
وقال تعالى: وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وقال تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى
وتتفاوت عواقب الذنوب وأضرارها بحسب نوعها ومشيئة الله في إنفاذها في الدنيا والآخرة، وهي وإن تفاوتت من حيث شدتها ونكالها إلا أنها تشترك في مطلق الخزي والذل والعذاب فتكون بذلك سببًا في تكدر النفس وفزعها وبابًا من أبواب الشقاء والبلاء في الدنيا والآخرة.
يروى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: لا يغرنكم قول الله عز وجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ الأنعام: 160
فإن السيئة وإن كانت واحدة فإنها تتبعها تسع خصال مذمومة:
أولاً: إذا أذنب العبد ذنبًا فقد أسخط الله وهو قادر عليه.
والثانية: أنه فرح إبليس لعنه الله.
والثالثة: أنه تباعد من الجنة.
والرابعة: أنه تقرب من النار.
والخامسة: أنه قد آذى أحب الأشياء إليه وهي نفسه.
والسادسة: أنه نجس نفسه وقد كان طاهرًا.
والسابعة: أنه قد آذى الحفظة.
والثامنة: أنه قد أشهد على نفسه السموات والأرض وجميع المخلوقات.
والتاسعة: أنه خان جمع الآدميين بمعصية رب العالمين.
وإنما يعصى الإنسان ربه لغلبة شهوة أو تلبيس شبهة، فتتجند جنود الشر الأربعة وهي: النفس الأمارة بالسوء، والدنيا، والشهوات، والشيطان، للإيقاع بالعبد في هذه أو تلك. فأما الشهوة فتدعو إلى التهاون بأوامر الله وانتهاك حرماته. وأما الشبهة فتدعوا إلى رد الحق واتباع الهوى والشيطان.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء:
أحدهما: رد الحق لمخالفته هواك، فإنك تعاقب بتقليب القلب، ورد ما يرد عليك من الحق رأسًا، ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك، قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ الأنعام: 110. فعاقبهم على رد الحق أول مرة، بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك.
والثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته، فإنك إذا تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك، قال تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة: 83]. فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فليهنه السلامة»( ).
أضرار المعاصي
1- قسوة القلب: فالقلب هو مركز قوة الإنسان، وعليه مدار صلاح بدنه وروحه، فإذا فسد فسد الجسد كله، وإذا صلح صلح الجسد كله، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ، فعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب»( ).
هل تعلم ما هى أشد عقوبة يضرب الله بها على العبد؟!!!!
فإياك – أخي الكريم – أن يضيع منك قلبك، فإن ضياعه هلاك ما بعده هلاك، وفساد ما بعده فساد، واحترس أن ترتكب من المعاصي ما يكون سببًا في قسوته ومرضه، فإن ذلك يورث الضنك والكدر، وفساد الرأي، وكثرة الوساوس والمخاوف، وقلق الفكر وفزع النفس، وهذه من أخطر الأمراض الموجبة للتعاسة والشقاء والتيه. فلا ترى العاصي إلا مهمومًا ضيق الصدر، فزعًا، قلقًا، خائفًا، قد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، وضاقت عليه نفسه، وما ذلك إلا غِبّ ما جنته يده من السيئات، وما ورثته قسوة قلبه من الحسرات والآفات نسأل الله العفو والمعافاة.
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي، قال: ادنه من الذكر. وقد روي أن رجلاً سأل عائشة رضي الله عنها: ما دواء قسوة القلب؟ فأمرته بعيادة المريض، وتشييع الجنائز، وتوقع الموت.
وشكا ذلك رجل إلى مالك بن دينار فقال: أدمنْ الصيام، فإن وجدت قسوة فأطل القيام، فإن وجدت قسوة فأقل الطعام.
وعن إبراهيم الخواص قال: دواء القلوب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالس الصالحين.
2- مرض النفس والبدن: ومن أخطر آثار الذنوب والمعاصي، ما تورثه في ذات العاصي نفسه من أمراض فتاكة تكون سببًا في انزعاجه وهمه وحزنه، وينعكس ذلك على بدنه فتصيبه الأمراض في جميع جسده، فلا تراه إلا كسلان يشكو من الضيق والعجز، وقد سدت في وجهه أبواب الخير وفتحت أمامه أبواب الشر، فلا هو يذكر طريق الرجوع فيرجع ولا هو يجد راحة في طريقه فيهنئ.
قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ
وكما أن الطاعة تشرح الصدر وتطمئن النفس وتقوي البدن، فإن المعصية بعكس ذلك تضيق الصدر وتمرض النفس وتوهن البدن وتمحق الرزق وتنقص من العمر.
3- وزوال النعم: قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، فكما أن الشكر يحفظ النعم ويكون سببًا في زيادتها فإن المعاصي تسلب عن صاحبها النعم، وتكون سببًا في نقصانها أو انعدامها بالكلية وذلك بحسب تفاوت الذنوب والخطايا.
وروى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: «لما فتحت قبرص، فرق أهلها»( ) فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ ! فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى!
نعم أخي الكريم: إنها المعاصي، إذا حلت بقوم حل بهم السخط والعذاب، وانقلبت لذاتهم حسرات، ونعيمهم ويلات، وغناهم فقرًا، ولم يعد لهم من الله ولي ولا نصير.
وما الذي أخرج آدم من الجنة دار النعيم وأسكنه دار الهم والغم، إلا الذنب! وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه إلا الذنب! وما الذي أهلك القرون الأولى عاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبع غير الذنب! فاحذر عذاب الله، فإنه بالعاصين ملحق! وارع أنت فيه من صحة وأمان، وغنى ونعيم مهما قل أو أكثر، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
4- غضب الله تعالى وسخطه: ومن أعظم عواقب الذنوب والمعاصي استحقاق سخط الله وغضبه، وليس بعد هذا العقاب عقاب، قال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وقال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ
وقال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.
قال ابن الجوزي رحمه الله: لما سمع المتعظون هذا التحذير فتحوا أبواب القلوب لنزول الخوف وأحزن الأبدان، وقلقل الأرواح، فعاشت اليقظة بموت الهوى، وارتفعت الغفلة بحلول الهيبة، وانهزم الكسل بجيش الحذر، فتهذبت الجوارح من الزلل، والعزائم من الخلل، فلا سكون للخائف، ولا قرار للعارف، كلما ذكر العارف تقصيره ندم على مصابه، وإذا تصور مصيره حذر مما في كتابه وإذا خطر العتاب بفنائه فالموت من عتابه، فهو رهين القلق بمجموع أسبابه»( ).
5- وفي الآخرة عذاب أليم: والخسارة كل الخسارة هي ما توجبه المعاصي من العذاب بعد الموت فهي ظلمة في القبور، وغمة يوم النشور، ونيران في جهنم وبئس المصير، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
فاتق النار – أخي الكريم – فإنك ليس بالقادر على حرها، ولا بالقوي على دفعها، فإنما هي لحظات وثواني... وينكشف الغطاء عن الطائع والعاصي.. ويجازي المحسن إحسانًا والمسيء عذابًا وهوانًا.
6-والمخرجُ... التوبة!: وليس من وسيلة لدفع عقوبات الذنوب وأضرارها إلا الإقلاع عن إتيانها، والندم على اقترافها، والعزم على فراقها وهجرها. ورد الحقوق إلى أهلها، فهذه هي شروط التوبة النصوح التي يسلم القلب بها إلى الله، ويسوق صاحبها نفسه إلى الله سوقًا يبتغي بذلك أمنًا وأمانًا، وجنة ورضوانًا. قال تعالى:وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والله تعالى أعلم.
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما
فلولاك لم ينج من إبليس عابدٌ وكيف وقد أغوى صفيك آدما!
اللهم ليّن قلوبنا بذكرك
يارب ليّن قلوبنا بطاعتك
يارب ليّن قلوبنا بقربك
اللهم لا تجعلنا من قساة القلوب
اللهم ليِّن قلوبنا بذكرك وأدمع أعيننا من خشيتك وأحسن خاتمتنا.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إنَّا نعوذ بك من قسوة القلوب
يارب ليّن قلوبنا بطاعتك
يارب ليّن قلوبنا بقربك
اللهم لا تجعلنا من قساة القلوب
اللهم ليِّن قلوبنا بذكرك وأدمع أعيننا من خشيتك وأحسن خاتمتنا.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إنَّا نعوذ بك من قسوة القلوب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق