شعبان موسم من مواسم الخير
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي قَلَّبَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَأَجْرَى الأَيَّامَ وَالشُّهُورَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَطْهَارِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً.
أَمَّا بَعْدُ:
إِنَّ خَيْرَ مَا يَبْذُلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ صِحَّتَهُ، وَأَفْضَلَ مَا يُمْضِي فِيهِ وَقْتَهُ، وَأَعْظَمَ مَا يَسْعَى إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ: إِنَّمَا هُوَ فِي اغْتِنَامِ فُرَصِ مَوَاسِمِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَاتِ؛ فَعُمْرُ الإِنْسَانِ مَحْدُودٌ، وَالْوَقْتُ أَغْلَى مَا فِي الْوُجُودِ، قَالَ تَعَالَى : ) وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( [ العصر: 1-3 ].
فَالْغَنِيمَةُ لِمَنْ كَانَ سَاعَاتُ عُمْرِهِ كُلُّها فِي خَيْرٍ وَعَلَى خَيْرٍ حَتَّى يُخْتَمَ لَهُ بِخَيْرٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاس ٍرَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ».[رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ].
إِنَّ الإِنْسَانَ مَسْؤُولٌ عَنْ عُمْرِهِ وَعَنْ عَمَلِهِ وَعَنْ سَائِرِ حَيَاتِهِ، فَإِنْ صَرَفَ ذَلِكَ فِي طَاعَةِ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ رِبْحُهُ مَعْلُوماً، وَإِنْ ضَيَّعَهُ فِيمَا لَا يَنْفَعُ كَانَ فِي خَسَارَةٍ وَنَدَامَةٍ؛ فَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ t : قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عَمَلِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟ ». [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ].
فَإِيَّاكَ يَا عَبْدَ اللهِ أَنْ تُضَيِّعَ صِحَّتَكَ وَفَرَاغَكَ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَبَادِرْ إِلَى اغْتِنَامِ فُرْصَةِ الصِّحَّةِ وَالْعُمْرِ، فَكَمْ مِنْ مَغْبُونٍ فِيهِمَا قَدْ ضَيَّعَهُمَا؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ». [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
نَعِيشُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ مَوْسِماً مِنْ مَوَاسِمِ الْخَيْرِ، وَنَفْحَةً مِنَ النَّفَحَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ؛ فَإِنَّ الأَيَّامَ وَالْأَزْمَانَ لَا تُفَضَّلُ لِذَاتِهَا، وَإِنَّمَا لِمَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، فَقَدْ مَضَى شَهْرُ رَجَبٍ وَوَلَّى بِمَا فِيهِ مِنْ أَعْمَالٍ وَذَهَبَ، وَنَعِيشُ شَهْرَ شَعْبَانَ الَّذِي يَسْبِقُ رَمَضَانَ، فَفِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ وَالْأَجْرِ الْوَفِيرِ مَا يَرْغَبُ فِيهِ الصَّالِحُونَ وَالْعَابِدُونَ، فَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: « كَانَ أَحَبُّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللهِ أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانَ ثُمَّ يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ ». [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ].
بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُكْثِرُ مِنَ الصِّيَامِ فِيهِ حَتَّى يَصُومَهُ كُلَّهُ أَوْ أَغْلَبَهُ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِماً مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلاً ». [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا قَالَتْ: « لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ يَصُومُ شَهْراً أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ». [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَصُومُ شَعْبَانَ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ شَهْراً كَامِلاً إِلَّا رَمَضَانَ؛ وَلَكِنْ يَصُومُ غَالِبَهُ.
إِنَّ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَمَّا رَأَوْا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ حِرْصَهُ الشَّدِيدَ عَلَى صِيَامِ شَهْرِ شَعْبَانَ دَفَعَهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ سَأَلُوهُ عَنْ سِرِّ ذَلِكَ وَحِكْمَتِهِ، فَبَيَّنَ لَهُمُ السَّبَبَ الدَّاعِيَ لِتَخْصِيصِ شَعْبَانَ بِصِيَامٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قُلْتُ: « يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْراً مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» . [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ].
فَيَا مَنْ مَضَى مِنْ عُمْرِهِ مَا مَضَى، وَيَا مَنْ ضَيَّعَ مِنَ الْمَوَاسِمِ مَا ضَيَّعَ: أَدْرِكْ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَفَضْلٍ فَاغْتَنِمْهُ قَبْلَ فَوَاتِهِ، وَعَلَيْكَ بِالإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَتَرْكِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.
مَضَى رَجَبٌ وَمَا أَحْسَنْتَ فِيهِ
|
وهَذَا شَهْرُ شَعْبَــانَ الْـمُبَارَكْ
|
فَيَـا مَنْ ضَيَّعَ الأَوْقَاتَ جَـهْلًا
|
بِحُرْمَتِهَا أَفِقْ وَاحْـذَرْ بَـوَارَكْ
|
فَسَوْفَ تُفَارِقُ اللَّذَّاتِ قَـسْراً
|
وَيُخْلِي الْـمَوْتُ كَرْهاً مِنْكَ دَارَكْ
|
تَدَارَكْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطَـايَا
|
بِتَوْبَةِ مُخْلِصٍ واجْعَـلْ مَدَارَكْ
|
عَلَى طَلَبِ السَّلَامَةِ مِنْ جَحِيمٍ
|
فَخَيْـرُ ذَوِي الْجَرَائِمِ مَنْ تَـدَارَكْ
|
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- فَمَنِ اتَّقَاهُ وَقَاهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَيَّامَكُمْ مَعْدُودَةٌ، وَأَمَانَةَ رَبِّكُمْ عَارِيَةٌ مَرْدُودَةٌ، فَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ، وَلَا تَحْمِلُوا غِلًّا لِإِخْوَانِكُمْ، بَلْ سَابِقُوا وَسَارِعُوا إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَمِنْ فَضَائِلِ شَهْرِ شَعْبَانَ: أَنَّ فِيهِ لَيْلَةً لَا يَدْعُو اللهَ فِيهَا مُذْنِبٌ إِلَّا غَفَرَ لَهُ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ، وَالْمُشْرِكُ هُوَ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدّاً فَصَرَفَ مَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِغَيْرِهِ، وَالْمُشَاحِنُ هُوَ مَنْ يَحْمِلُ فِي قَلْبِهِ حِقْداً عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بُغْضاً لَهُ لِهَوَى نَفْسِهِ؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ».[رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ].
وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تُخَصَّصَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِقِيَامٍ أَوْ بِطَاعَةٍ، فَالْوَاجِبُ الْحَذَرُ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي يُكْثِرُ مِنْهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ فَضَائِلَ لِهَذَا الشَّهْرِ هِيَ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَمَا عَدَاهَا مِمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ لَا أَصْلَ لَهُ، مِنْ تَخْصِيصِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْهُ بِقِيَامٍ أَوْ تَخْصِيصِ نَهَارِهَا بِصِيَامٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَعَلَى الْمُسْلِمِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَإِنْكَارُ مَا لَمْ يَرِدْ عَنْهُ، وَرَدُّ كُلِّ بِدْعَةٍ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ». [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
فَحَرِيٌّ بِالْمُسْلِمِ: أَنْ يَغْتَنِمَ هَذَا الشَّهْرَ الْفَضِيلَ، وَيَسْتَثْمِرَ سَاعَاتِهِ وَأَيَّامَهُ بِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ جَلِيلٍ، وَأَنْ يَتَّخِذَ مِنْهُ اسْتِعْدَاداً وَتَهَيُّؤاً لِشَهْرِ رَمَضَانَ الْكَرِيمِ، وَمِنْ صُوَرِ الِاسْتِعْدَادِ وَالتَّهَيُّؤِ: قَضَاءُ الْمَرْءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ الْفَائِتِ؛ إِذْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ جَعَلَ زَمَنَ الْقَضَاءِ مُمْتَدّاً إِلَى رَمَضَانَ الْقَادِمِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِينَ، وَاصْرِفْ عَنَّا كُلَّ شَرٍّ وَسُوءٍ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِينَ، وَاصْرِفْ عَنَّا كُلَّ شَرٍّ وَسُوءٍ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق